الاتجاهات العالمية 2040.. عالمٌ أكثرُ تنازعًا
الاتجاهات العالمية 2040.. عالمٌ أكثرُ تنازعًا
GLOBAL TRENDS 2040, A MORE CONTESTED WORLD
ترجمة وقراءة وتحليل لتقرير مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي الصادر في مارس 2021
إعداد- بوكروح نوح 22/12/2022
لتنزيل الملف PDF اضغط هنا
تقديم
- العوامل الهيكلية
- الديناميكيات الناشئة
- السيناريوهات المستقبلية بحلول سنة 2040
توصية
تقديم
في تقريره السابع[1] والصادر في مارس 2021، وضمن سلسلة تقاريره التي يتم وضعها كل أربع سنوات منذ 1997، وبهدف توفير إطار عملي وتحليلي مبكر لواضعي السياسات وتمكينهم ومساعدتهم على بلورة إستراتيجية ناجعة للأمن القومي، وتحت عنوان “الاتجاهات العالمية 2040 عالمٌ أكثرُ تنازعًا – GLOBAL TRENDS 2040, A MORE CONTESTED WORLD”.
قدّم مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي* من خلال تقريره المشار إليه في الأعلى، رؤيته للعالم بحلول سنة 2040، وذلك اعتمادا منه على تقيم خاص بالاتجاهات والشكوك التي يمكن لها أن تؤدي دورًا حيويا في تشكيل البيئة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وللعالم معا خلال العقدين القادمين2020-2040، والذي من المحتمل –حسبه- أن يعرف فيه النظام الدولي، تزايدا في التهديدات وتنوّعا في طبيعتها (الاقتصادية ،التكنولوجية، الاجتماعية، الصحية والسياسية.. الخ)، والتي من شأنها أيضا إثارة جدلٍ وتنازعٍ ما بين الدول.
قُسّم التقرير إلى ثلاثة محاور، الأول تناول فيه القوى الهيكلية المؤثرة بحصرها في أربعة، وهي: التركيبة السكانية، البيئة، الاقتصاد والتكنولوجيا، نظرا لتأثيرها في تشكيل الديناميكيات المستقبلية، ونسبية نطاقها العالمي، وتوفر البيانات والأدلة بشأنها، مما يساعد على تقديم توقعات موثوقة ومعقولة بشأنها. أمّا الثاني فتمحور حول الديناميكيات الناشئة عن تفاعل القوى الهيكلية تلك وتقاطعها مع عوامل أخرى، وهي على ثلاث مستويات من التحليل، بداية بالمجتمع والدول، وانتهاء بالنظام الدولي. ونظرا لتنوع الخيارات المتخذة بخصوصها في المستقبل، فإنه ستكون هناك درجة عالية من عدم اليقين.أمّا القسم الثالث فتم فيه وضع خمس سيناريوهات مستقبلية مُفترضَة الحدوث، والتي من المحتمل أن يواجهها النظام العالمي في العقدين القادمين، ثلاثة منها تُصَوِّرُ مستقبلاً يتميز بتدرج في حدة التحديات العالمية، وتتحدد فيه التفاعلات إلى حد كبير من خلال المنافسة بين الو.م.أ والصين.
– السيناريو الأول يشهد نهضة للديمقراطيات وإعادةً لبعثها بقيادة الو.م.أ؛
– الثاني يعرف فيه النظام العالمي فوضى وعدم استقرار، تصبح فيه الصين دولة رائدة في العديد من المجالات، ولكن غير مُهيمنة؛
– أما الثالث فيشهد تعايشا تنافسيا يقوم على ازدهار العلاقات بين الو.م.أ والصين، رغم استمرار تنافسهما حول قيادة العالم؛
– وسيناريوهيْن اثنين (الرابع والخامس) يُصوّران تغيرًا جذريًا في المنظومة العالمية، يصبح التنافس فيهما بين الو.م.أ والصين أقل أهمية، كونهما مجبرتان على مواجهة تحديات عالمية كبرى تتسم بشدة أكبر، وذلك نتيجة عدم قدرة البُنى والهياكل الدولية الموجودة على مواجهة هذه التحديات لوحدها، وهذا على النحو الآتي:
* الأول سيناريو الانقسامٌ والإنعزالٌ، يعرف فيه النظام الدولي انهيارًا للعولمة، وظهورا لتكتلات اقتصادية وأمنية لمواجهة التهديدات والتحديات المتزايدة،
* الثاني سيناريو المأساة والتعبئة، يُـتوقع فيهحدوث تغير ثوري (راديكالي) في النظام الدولي، في أعقاب نشوء أزمات بيئية عالمية مُدمّرة.
I. العوامل الهيكلية:
- وباء كوفيد 19: والذي أعاد التذكير بمقدار هشاشة النظام الدولي الحالي، حيث يُعدّ، ونظرا لعدوى انتشاره السريع والمستمر، ولتداعياته على مختلف المجالات (الصحة، الاقتصاد، السياسة والأمن..الخ)، أكثر العوامل المؤثرة التي كانت سببا في حدوث اضطراب عالمي لم يعرف لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، والتي يتوقع التقرير أنها ستستمر لسنوات عدة قادمة، فضلا عن إظهاره للمخاطر الناتجة عن المستوى العالي للترابط العالمي التي تعرفها المنظومة الدولية. ويشير التقرير إلى أن العالم سيواجه في العقود القادمة تحديات مكثفة، نتيجة لانتشار الأمراض والأوبئة، وللتغيرات المناخية، إضافة إل ى الاضطرابات الناتجة عن التكنولوجيات الجديدة والأزمات المالية.
- الديموغرافيا والتنمية البشرية: حيث سيشهد العالم نموا بطيئاً في عدد السكان، مع ارتفاع في متوسط العمر، وهو ما سيساعد اقتصادات الدول النامية (القوى العاملة). وعلى النقيض تشهد العديد من الدول المتقدمة شيخوخة وتقلصا في أعداد سكانها، ما يفرز صعوبة في التقدم والحفاظ على مستويات التعليم والصحة والحد من الفقر، إضافة إلى تزايد موجات الهجرة سواء بسبب النزاعات (دولية أو داخلية) والكوارث البيئية، والتي ستؤثر على الدول الـمُصدِّرة الأصلية (استنزاف القدرات البشرية الضرورية للاقتصاد)، والمستقبِلة ( وهي دول بإمكانها الاعتماد على المهاجرين لتعويض شيخوخة القوى العاملة لديها) بالسلب أو الإيجاب.
- استمرار حالة عدم المساواة الاقتصادية: التي تؤثر على مؤشرات التنمية البشرية، بسبب التفاوت في الدخل الفردي داخل الدول، والذي يرتبط بأسباب هيكلية وتكنولوجية. إن مَكْنَنة( automatisation) الوظائف ستسمح بالاستغناء على كثير من القوى العاملة، وهو ما سيوسع من دائرة الفقر، ومن الاعتماد على جلب عمالة خارجية في العديد من الوظائف، إضافة إلى التحولات الإيديولوجية المرتبطة بالحلول التي يطرحها السوق.
- عجز التقدم الحاصل في مجال الرعاية الطبية عن مواجهة بعض الأمراض المعدية والأوبئة وفي القضاء عليها (السل، الملاريا، إيبولا، كوفيد19..الخ)، وكذا الأمراض غير المعدية (السرطان، مرض السكري، أمراض الأوعية والقلب..الخ)، والتي أصبحت تخلف سنويا الكثير من الضحايا، وهو أمر يؤثر بشكل كبير على إمكانات الدول.
- تفاقم مخاطر التغيرات المناخية والبيئية(ارتفاع درجات الحرارة، ارتفاع مستوى سطح البحر أصبح يهدد بغرق العديد من المدن الساحلية، وخاصة في جنوب شرق آسيا..الخ)، وتأثيراتها على الأمن البشري (الأمن الغذائي، المائي، الصحي والطاقوي)، ما يجبر الدول على اتخاد خيارات صعبة بخصوص التصدي لها، مقابل توزيع أعباء غير متساوية، خاصة بالنسبة للدول النامية التي تفتقر للموارد الضرورية لمواجهتها، ويدفع إلى زيادة حدة التنافس، الأمر الذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي، ويشجع على بروز حركات سياسية معارضة مهتمة بالبيئة (أحزاب الخضر) تسعى من أجل تحقيق أهداف اتفاق باريس لسنة 2015 (خفض انبعاث الغازات الدفيئة إلى المستوى الذي لا يسمح بتجاوز درجة حرارة الأرض حد 1.5 درجة مئوية)، وتدفع وتُشجّع على التوجه نحو استغلال الطاقات المتجددة والنظيفة (الطاقة الشمسية، الرياح، الهيدروجين..الخ) بهدف التقليل من الاعتماد على الوقود الأحفوري، إضافة إلى إجهاد القوات العسكرية وخاصة في ظل استنفارها الدائم للتدخل في حالة وقوع كوارث طبيعية وبيئية.
- بروز العديد من الاتجاهات الاقتصادية والعالمية،وخاصة في ظل ارتفاع الديون الوطنية وتضاؤل مرونة تعامل الحكومات مع أعباءها وخاصة منذ الأزمة المالية لسنة 2008، إضافة إلى عجزها على تلبية حاجيات سكانها الأساسية، وتَجـزُّء وتعقيد البيئة التجارية واضطرابها (تزايد تجارة الخدمات حول العالم، وصعود الشركات القوية)، ما يساهم في إعادة تشكيل الظروف الاقتصادية داخل الدول وفيما بينها من خلال الاتفاقيات التجارية الإقليمية والثنائية. فالاقتصادات الآسيوية ستواصل نموها ولكن بشكل بطيء، في حين تساعد معدلات النمو المتزايدة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD الحكومات على مواجهة التحديات الاقتصادية والسكانية، وغيرها من التحديات (كارتفاع تكاليف رعاية كبار السن..الخ)، بالإضافة إلى تكثيف الدعوات إلى التخطيط والتنظيم، وخاصة كبرى منصات التجارة الإلكترونية (أمازون الأمريكية وعلي بابا الصينية)، سيّما مع تزايد الطلب على الخدمات العابرة للحدود، والذي سيتيح فرص دخول السوق الدولية للجميع، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة.
- التعقيد المتزايد في تنفيذ السياسات النقدية، بسبب التأثيرات التكنولوجية على القطاع المالي والعملات، وتزايد العملات الرقمية لدى البنوك المركزية، وتلك الصادرة عن القطاع الخاص (بيتكوين، إثيريوم، ليبيرا..الخ)، والتي ستحظى بقبول واسع في الأوساط المالية، سيّما مع تقليل سيطرة الدول على أسعار الصرف وعرض النقود، كما ستشهد العملات التقليدية (الدولار واليورو) تهديدا من عملات أخرى.
- تزايد وتيرة التطورات التكنولوجيةونطاقها بتسارع الاعتماد على التقنيات والتطبيقات المرتكزة على الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي سيساعد الدول النامية من الاستفادة من التطورات الأساسية في المجالات المتخصصة، ما يدفع إلى تحويل الخبرات والقدرات البشرية، بتوظيف التكامل العلمي لزيادة الابتكار، والذي من شأنه إحداث توترات واضطرابات بين جميع القوى الفاعلة، بحيث أن هناك ترابطا بين الهيمنة التكنولوجية والجغرافيا السياسية الـمُتسّمة بالتغير المستمر، وزيادة المنافسة العالمية (الصين والو.م.أ) حول العناصر الأساسية (المعادن الأرضية النادرة les terres rares التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات les semi-conducteurs) التي تلعب دورًا في إحداث التفوق التكنولوجي، وهو ما سيؤدي لظهور قيادات تكنولوجية جديدة ومُهيمنة.
II. الديناميكيات الناشئة:
1 – على مستوى المجتمعات: سيزداد التشاؤم وعدم الثقة في أوساط السكان، نتيجة مكافحتهم من أجل التعامل مع الاتجاهات المضطربة للاقتصاد (تباطؤ في النمو) والتكنولوجيا والديموغرافيا، لتأثيرها الكبير على المكاسب المتعلقة بالتنمية البشرية، وتزايد وعيهم وقدرتهم على التعبير على مطالبهم بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، لعدم الشعور بالأمان وعدم اليقين والثقة في المؤسسات والحكومات. إضافة إلى تزايد التقلبات الاجتماعية نتيجة بروز هُويات (عرقية، دينية، قومية..) جديدة عابرة للحدود، متضاربة ومتنافرة من حيث الرؤى والأهداف والمعتقدات الأساسية، وساعية لفرض وجودها، إضافة لتزايد الصراعات والنزاعات خاصة تلك المرتبطة بخطوط الصدع الفاصلة مابين الحضارات والهُويات داخل الدول، أو فيما بينها.
2 – على مستوى الدول: سيكون هناك تزايدٌ للضغوط على الحكومات المحلية، فالضغط المزدوج للقيود الاقتصادية (تباطؤ النمو والذي يُجهد موارد الحكومات وقدراتها على تقديم الخدمات الأساسية) والتحديات الديموغرافية والبيئية وغيرها، والمطالب المتزايدة للسكان، مقابل ظهور فئة قليلة من السكان مستأثرة بالثروة، تزايد التوترات نتيجة عدم التوافق واختلال التوازن بين المطالب العامة للسكان والاستجابات الحكومية، والذي سيفرز عدم استقرار سياسي، ويوسع من دور المصادر البديلة للحكم. كما أن تزايد عدم الرضا العام (وجود أزمة وقيادة ملهمة) سيحفز على إحداث تغيرات وتحولات كبيرة في أنظمة الحكم، كما سيمكن التقدم التكنولوجي الأفراد والجهات الفاعلة غير الحكومية (المنظمات غير الحكومية مثل مؤسسة “بيل وميلاندا غيتس”..الخ) من تحدي دور الدول.
3 – على مستوى النظام الدولي: إن تنامي استخدام التكنولوجيا، خاصة فيما يخص أدوات التفوق التكنولوجي (الاعتماد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والأنظمة ذاتية التحكم..الخ)، وبعدما كان مقتصرا على القوة العسكرية والاقتصادية والقوة الناعمة (الثقافية)، سيحدث توسعا في مصادر القوة في النظام الدولي، الأمر الذي سيزيد من خطر نشوب الصراعات والنزاعات ما بين الدول. بالمقابل، فإن عدم اليقين بإمكانية هيمنة دولة واحدة فقط على جميع المناطق والمجالات، يعني أنه سيكون للولايات المتحدة الأمريكية والصين تأثير أكبر في الديناميكيات العالمية. كما ستسعى القوى الإقليمية (إيران، تركيا، روسيا، الاتحاد الأوروبي، اليابان، المملكة المتحدة..الخ) لكسب مناطق نفوذ لها من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي، مما يؤدي إلى فرض خيارات أكثر صرامة على الجهات الفاعلة الأخرى (المنظمات غير الحكومية، الجماعات الدينية، الشركات التكنولوجية البارزة المتمتعة بموارد وتأثير عالمي يساعدها على تعزيز وبناء شبكات بديلة مكملة للدول أو منافسة لها). كما تستثمر الجماعات الإرهابية في الاستفادة من الانقسامات الاجتماعية من أجل تعزيز إيديولوجياتها والوصول إلى السلطة من خلال العنف، أو في الاعتماد على العامل التكنولوجي لتحقيق أهدافها. هذا بالإضافة إلى زيادة التنافس الجيوسياسي الذي يمكن أن يُسرّع من الانتشار النووي بالشكل الذي يهمش المعاهدات التي تحظره، وهو بدوره ما يفرغ المعايير والقواعد والمؤسسات العالمية من التزاماتها.
III. السيناريوهات المستقبلية بحلول سنة 2040.
تم وضع هذه السيناريوهات بهدف توسيع الرؤية لتشمل كافة الاحتمالات، وكشف آلية تأثير القوى الهيكلية والديناميكيات الناشئة، وأوجه عدم اليقين الرئيسة. وقدتم بناؤها من خلال طرح ثلاث أسئلة، هي:
– ما مدى شدة التحديات العالمية التي تلوح في الأفق؟
– ما نوع المشاركة التي تنخرط فيها الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية في العالم؟
– ما الذي تعطيه الدول كأولوية للمستقبل؟
1- السيناريو الأول: نهضة الديمقراطيات.
بحلول عام 2040، يُتوقعُ أن تكون هناك نهضة للديمقراطيات المفتوحة بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها (دول أوروبا الغربية، اليابان، كوريا الجنوبية..الخ). ذلك إنه ونتيجة للإجماع العالمي الذي أفرزه التطوير الناجح والتوزيع العالمي للقاح كوفيد 19 خلال عاميْ 2020-2021، حول أهمية البحث العلمي والابتكار والتطوير التكنولوجي، لمواجهة التحديات العالمية الناشئة، فإن المؤسسات البحثية والوكالات الحكومية وغير الحكومية والشركات الخاصة العاملة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومن خلال قيامها بتعزيز آليات تبادل المعلومات وصياغة وتنسيق أساليب البحث والتطوير، بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، ستخلق انتعاشا اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا يساعد على تلبية الاحتياجات الضرورية لمجتمعاتها، بزيادة الإنتاجية وتحقيق النمو والازدهار الاقتصادي، ما يسمح بتعزيز قدرات وموارد الحكومات، بالشكل الذي يُمكّنها من التقديم الفعّال للخدمات والأمن، ويدفعها نحو إطلاق مبادرات لمكافحة الفساد وزيادة الشفافية، وهو ما يعزز من ثقة الأفراد بالمؤسسات الديمقراطية، وفي المساعدة على معالجة الانقسامات الاجتماعية واستعادة الشعور القومي، وكذا في إحراز تقدم مطرد في معالجة قضايا المناخ والتحديات الأخرى، بسبب تحسن الوعي العام وتدابير التثقيف، إضافة إلى قدرة التقنيات الجديدة على التعرف السريع على المعلومات الخاطئة وكشفها، والذي يجعل من المجتمعات الديمقراطية أكثر مقاومة لها، ويدفع نحو عودة ثقافة النقاش المتعلقة بالقيم والأهداف والسياسات.
كما ستصبح الولايات المتحدة وحلفاؤها قادة عالميين معترف بهم في مجموعة متنوعة من مجالات التكنولوجيا، جرّاء توحيد قِواها لتطوير معايير دولية للحد من آثارها السلبية. فالنجاح التكنولوجي سيعزز قابليتها للتكيف والمرونة بشكل أكبر، كما سيعزز قدرتها على الاستجابة للتحديات العالمية المتزايدة، مع توسع التعاون متعدد الأطراف ليشمل مجالات أخرى ( الأمن السيبراني، تخفيف آثار تغير المناخ..الخ).
وعلى النقيض من ذلك سيظهر فشل كل من روسيا والصين في تنمية المواهب عالية التقنية والاستثمار فيها، وفي توفير البيئة اللازمة للحفاظ على استمرارية الابتكار، بسبب الضوابط والمراقبة الاجتماعية الـمُمارَسة من طرف الحكومات، والتي تؤدي إلى خنق الابتكار والإبداع، وهو ما يدفع بكبار العلماء ورجال الأعمال فيهما نحو الهجرة واللجوء إلى الولايات المتحدة وأوروبا. فعلى الرغم من استمرارهما كقوتين عسكريتين إستراتيجيتين، إلا أنهما ومع تزايد الضغط المحلي ستصبحان محاصرتين داخليا. فشيخوخة السكان وارتفاع الدَّيْن العام والخاص، وهيمنة النموذج الاقتصادي الموجّه وغير الفعال في الصين، فإن ذلك سيشكل عائقا أمام تحوّلها إلى اقتصاد استهلاكي، ويُوقّعها في فخ الدخل المتوسط. في حين أن ركود العمالة والاعتماد المفرط على عائدات صادرات الطاقة، والاقتتال الداخلي بين النخب بعد بوتين سيؤدي إلى تراجع في مكانة روسيا.
كما أن عدم قدرة الصين على الوفاء بوعودها اتجاه بعض البلدان، خاصة تلك التي تعرف اكتظاظاً في عدد سكانها (البرازيل، إندونيسيا، الهند ونيجيريا)، والذي سيدفع بهذه الأخيرة نحو تبنّي الديمقراطية بشكل كامل، سيّما مع الانتشار السريع للتقنيات المتقدمة في الاقتصادات النامية، والذي ساهم في إدخال تحسينات سريعة على التعليم ومهارات العمل (منصات التعلم والعمل عن بعد الـمُطوَّرة خلال فترة انتشار الوباء)؛ وأن ما يُعرف بــ”الصعود الصيني” لم يعد أمرا محتوما، فإن ذلك أدى بالدول الرائدة إلى تحولها إلى اقتصادات سريعة النمو ذات قطاعات خاصة وأنظمة ابتكار قوية.
كما ستزداد مقاومة الأنظمة الاستبدادية للأنظمة الديمقراطية القوية، (تجمّع مظاهر القمع الشديد والركود الاقتصادي وزيادة الضغط السكاني سيؤدي إلى تقويض الأنظمة الاستبدادية القائمة في الصين وروسيا)، ويجعلها أكثر عدوانية في المناطق المجاورة لها. فالتهديد الروسي بالتدخل في العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق للدفاع عن الأقلية الروسية، في محاولة لتحويل الانتباه عن القضايا الداخلية، وما يحدث منذ 24 فيفري 2022 من حرب ضد أوكرانيا، والتي كانت بدايتها مع ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، واتخاذ الصين إجراءات تهديدية في بحر الصين الجنوبي وخاصة قضية تايوان، كل ذلك سيدفعهما نحو الاستثمار في أنظمة الأسلحة غير المتكافئة، وفي تكنولوجيا المعلومات الـمُضلِّلة لمواجهة المزايا الأمريكية، وتجنّب تكلفة العنف والصدام المباشر.
2- السيناريو الثاني: الفوضى وعدم الاستقرار.
بحلول عام 2040، ستكون الفوضى وعدم الاستقرار سمة النظام الدولي، ويعود ذلك إلى تزايد تجاهل القوى الكبرى (الصين، روسيا، الو.م.أ..الخ) والإقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل..الخ) والجهات الفاعلة غير الحكومية الساعية لتحقيق أهدافها بالقوة للقواعد والمؤسسات الدولية، وهو ما يجعل العالم أكثر عرضة لهجمات المتسللين (الأفراد والإرهابيين والجماعات الإجرامية). كما ستشهد دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تباطؤاً في النمو الاقتصادي، وتوسّعا في الانقسامات الاجتماعية، وحِدّة في الشلل السياسي بشكل يحد من التعاون العالمي، إضافة إلى عدم قدرة التكنولوجيا على توفير الحلول لمختلف التحديات. فعدم التعافي التام للعديد من اقتصادات الدول المتقدمة والناشئة من جائحة كوفيد 19، وكذا الترويج البطيء وغير الفعّال للقاحات سيطيل من عمر الأزمة. كما أنّ ارتفاع الديون الوطنية، وتكلفة رعاية المسنين، والأحداث المناخية المتكررة، وتدهور البيئة، سيُجهِدُ الميزانيات الحكومية ويُزاحم النفقات ذات الأولوية (نفقات التعليم والبنية التحتية والبحث العلمي والتنمية)، الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور تدريجي لأزمات بيئية وصحية واقتصادية. وهو بدوره سيَحدُّ من الدعم السياسي للحكومة ومواردها، ويَحصُره في الإنقاذ (حالات الطوارئ والتحفيز الاقتصادي قصير الأجل)، ويوسّع من الانقسامات الاجتماعية ومن زيادة صعوبة التوصل إلى حلول سياسية ناجعة بشأن أولويات الأمن القومي الداخلي.
كما سيكون هناك استمرار في تزايد الإحباط والاحتجاجات العامة، وحركات المعارضة التي لا يمكنها الاتفاق فيما بينها، نظرا لعدم وضوح متطلباتها وأهدافها. فالاستقطاب المجتمعي الذي شَكَّلتْه وسائل التواصل الاجتماعي، سيؤدي إلى زيادة الجمود والتقلب السياسي، بحيث لا تستطيع هذه الجماعات الفئوية وخاصة في الدول الديمقراطية، اتخاذ إجراءات فعّالة بشأن السياسة الاقتصادية والبيئية والهجرة والسياسة الخارجية، نتيجة عدم اليقين المحيط بالأزمة. كما أن استجابة الحكومات ستعيق عملية خلق فرص الاستثمار والعمل، ويؤدي إلى إغراق دول أمريكا الشمالية وأوروبا في مرحلة من النمو البطيء. أمّا البلدان النامية، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط فسيصيبها ركود، نتيجة إخفاق السياسات الوطنية المنتهجة، ما يدفع بها للتحول نحو الصين. إضافة إلى استمرار تزايد التحديات الدولية (الإرهاب، النزاعات الداخلية، التغيرات المناخية، تدهور البيئة..الخ)، ممّا سيؤدي إلى زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين نحو البلدان الغنية (دول أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية)، هربا من نتائج هذه التحديات والركود الاقتصادي.
كما ستشهد الصين العديد من المشاكل (البيئية والاجتماعية)، غير أنه بإمكانها التكيف بشكل أفضل، وذلك بفضل التماسك الاجتماعي القوي والثقة والتوجيه المركزي والمرونة، وقدرتها على توفير فرص العمل والسلع والخدمات، رغم انخفاض مستوى النمو مقارنة بسنوات الازدهار الاقتصادي (التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين). كما أنّ نمو نَاتِجها المحلي الإجمالي سيجعلها أكبر اقتصاد في العالم، ويمنحها التفوق على الولايات المتحدة. وهو واقع سيدفعها نحو استغلال مشاكل الغرب لتوسيع نفوذها الدولي، خاصة في آسيا (مشاريع البنية التحتية الضّخمة المصممة للتحكم في تأثير تغير المناخ، خطط تشييد البنية التحتية المماثلة، والاستثمار الأجنبي المستقر، والمساعدات)، إضافة إلى تحركاتها العدوانية في آسيا ، والتي ستزيد من خطر نشوب نزاعات مسلحة مع القوى الإقليمية الأخرى (اليابان ونحوها)، سيّما على الموارد الرئيسة (معادن الأراضي النادرة الضرورية للصناعات ذات التكنولوجيا الدقيقة والمتواجدة في أعماق المحيط الهادي)، بالشكل الذي يدفعها للتركيز على الاستجابة للتهديدات الأمنية في محيطها (بحر الصين الجنوبي، قضية تايوان، الحدود مع الهند)، وفي الداخل (إقليم التبت، إقليم شينجيانغ مع الأقلية المسلمة هناك، ومقاطعة هونغ كونغ..الخ)، إلاّ أنها تفتقر للرغبة والقوة العسكرية لتحمل مسؤوليات القيادة العالمية، رغم تحليها باليقظة بشأن التشابكات الدولية، والأدوار القيادية خارج المناطق المحيطة بها (لا تحاول إقامة نظام عالمي جديد)، واكتفاءها بالتركيز على تعزيز التنمية الصناعية الداخلية، وصياغة المعايير التقنية للنهوض بأهدافها الإنمائية، وتركها للعديد من التحديات العالمية دون حلّ (تغير المناخ وعدم الاستقرار في البلدان النامية..الخ).
كما سيساهم نجاحها في إجبار الحكومة التايوانية على إجراء مفاوضات إعادة التوحيد. كما سيتسم موقفها في آسيا بالثبات، لكون الانتصار الاقتصادي والعسكري اللذيْن حققتهما يعتبران نقطة تحول في المنطقة ( غياب أي متحدي أمام الصعود الصيني). كما ستتفق وتتوافق أيضا روسيا بشكل عام مع الصين، ما يدفع العديد من الحكومات للرضا بالربح في السوق الصيني الضخم، غير أنّ هناك قلة من الدول على استعداد للعيش في ظل الهيمنة الصينية، في حين أنّ الولايات المتحدة ستحاول الحفاظ على العلاقات مع حلفائها في المنطقة (اليابان وكوريا الجنوبية)، واللذين سيتجهان نحو تحديث برامجهما العسكرية (برامج الأسلحة النووية) بسبب المخاوف من مصداقية المظلة الأمنية الأمريكية ضد كل من الصين وكوريا الشمالية.
3- السيناريو الثالث: التعايش التنافسي.
بحلول عام 2040، سيشهد العالم تعايشا ممتزجا بالمنافسة، فكل من الولايات المتحدة والصين ستعطي الأولوية للنمو الاقتصادي ولإعادة تقوية العلاقات التجارية، مع استمرار التنافس على النفوذ السياسي، وعلى نماذج الحكم والمزايا التكنولوجية والإستراتيجية، إضافة إلى انخفاض مخاطر نشوب حروب واسعة النطاق بسبب تزايد الاعتماد الاقتصادي المتبادل. فالتعاون الدولي والابتكار التكنولوجي أتاح للاقتصادات المتقدمة السيطرة على المشاكل العالمية على المدى القصير، مقابل استمرار التحديات المناخية.
فمن خلال تجربة التعافي البطيء من جائحة كوفيد 19، وتمديد الحرب التجارية الصينية الأمريكية، وبسبب تراكم الطلب وخيبة الأمل العامة للأشخاص الذين يعانون من ضعف الأداء الاقتصادي، والذي سيدفع بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى إحياء سياسات اقتصادية يحركها السوق لتحفيز النمو، وإقرار مجموعة السبع G7 لإجماعٍ اقتصادي (خططا للمدفوعات من أجل التحفيز الاقتصادي وتحرير التجارة والاستثمار، وخفض الضرائب، وتقليل الرقابة)، فإن ذلك كله سيكون سببا في أن يلقى دعما من روسيا وخاصة بعد بوتين، بسبب معاناتها من تأثيرات انخفاض أسعار النفط، واتفاق الأوروبيين على جولة جديدة من تحرير التجارة، وانضمام الاقتصاديات الناشئة (البرازيل والهند) إلى مبادرة الإجماع الاقتصادي لـمجموعة السبع.
بينما سترفض الصين قبول النموذج المطروح من طرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بإصرارها على النظام الموجه والمغلق، وإعطائها الأولوية للنمو الاقتصادي والتجارة، كما ستتخذ رفقة الو.م.أ وبالرغم من الشكوك المتبادلة واختلاف النموذج السياسي والاقتصادي بينهما، إجراءات بهدف استقرار علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والمشحونة بالاختلافات حول قضايا وقيم أساسية ( الملكية الفكرية، قضية تايوان..الخ). فالسعي للإعفاء من القيود الصارمة على التجارة والاستثمار سيدفع بالطرفين نحو تحقيق ازدهار مشترك، وحماية مصالحهما المشتركة.
فالصين والولايات المتحدة ستشكلان مجتمعا ذا قيمة مشتركة، يتميز بالتنافس على الأسواق والموارد رغم اختلافهما (الصين سيطرة استبدادية وتوجيه مركزي وتكنولوجيا المراقبة العامة، والو.م.أ قائم على المؤسسة الخاصة والديمقراطية والحرية الفردية وحرية تدفق المعلومات). وهذه المنافسة بإمكانها منع الانقسامات الداخلية، نتيجة اتحاد الشعوب لدعم بلدانهم وقادتهم، مع اهتمام الشركات التجارية الكبرى العابرة للحدود بتنفيذ معظم الأعمال المتعلقة بإدارة التجارة وتدفق المعلومات.
إضافة إلى ذلك ستعمل كل من الو.م.أ والصين على منع أي تصعيد للخلافات ما بين حلفائهما، إلى مستوى قد يهدد التقدم الاقتصادي والاستقرار العالمي، مع بقاء المنافسة الجيوسياسية ( بحر الصين الجنوبي) كتهديد للعلاقات الاقتصادية بينهما، مع عدم قدرة المجتمع الدولي على التدخل في الصراعات الداخلية المتفاقمة في العديد من البلدان الفقيرة.
كما سيؤدي ارتفاع أسعار المواد الأساسية والطلب على العمالة الأجنبية (استحداث الدول المتقدمة لبرامج خاصة بالعمال الأجانب بسبب شيخوخة سكانها، وبرامج تتبع بيومترية للحد من الهجرة غير الشرعية)، لتحفيز الانتعاش الاقتصادي وتحسين آفاق نمو الطبقة الوسطى (ارتفاع الدخل) في البلدان النامية ( الصين، الهند، جنوب شرق آسيا وأجزاء من إفريقيا). إلا أن عددا كبيرا من الشباب في هذه الدول (خاصة في إفريقيا)، لن يستفيد من هذا الانتعاش الاقتصادي.
على الصعيد البيئي سيلعب التحول نحو الطاقات المتجددة وتطويرها دورا كبيرا في كبح نسب انبعاث الغازات الدفيئة (لكن ليس بالسرعة الكافية التي تسمح بمنع آثارها الكارثية)، باستثمار الدول الغنية في تدابير التكيف لحماية سكانها المعرضين للخطر، مقابل عجز البلدان المتخلفة على التكيف، مما يخلق لها تحديات أمنية جديدة.
4- السيناريو الرابع: الانقسام والانعزال.
بحلول العام 2040، سيشهد العالم انهياراً للعولمة المبنية على العلاقات التجارية والمالية، وبروزا لمجموعات اقتصادية وأمنية عدة، بأحجام وقوى مختلفة، مركزة على الاكتفاء الذاتي (تركيز الموارد والحفاظ على درجة معينة من الكفاءة الاقتصادية) والمرونة والتكيف (ما يجعل من هذه المجموعات مجدية اقتصاديا) والدفاع، تتمحور حول الو.م.أ، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين وبعض القوى الإقليمية ( إيران، تركيا)، ما يؤدي لاستقطاب القوى الصغيرة الساعية لحماية نفسها، تكون فيه سيادة سيبرانية وتدفق مستقل للمعلومات، بالإضافة إلى تغير مواقع سلاسل التوريد، وتعطل التجارة الدولية، مع بقاء البلدان النامية الهشة مهددة بالفشل، مع تناول جزئي لقضايا البيئة.
فسلسلة التحديات العالمية (فقدان الوظائف بسبب العولمة، النزاعات التجارية، الأزمات الصحية، والإرهاب العابر للحدود..الخ)، ستدفع بالبلدان إلى رفع الحواجز وفرض قيود تجارية من أجل حماية مواردها ومواطنيها وصناعاتها، وضع يجعل من البلدان ذات الأسواق المحلية الكبيرة (الو.م.أ، الصين، الهند..الخ) تنجح في تعديل توجهاتها الاقتصادية، بالمقابل يُكبّد الاقتصادات النامية محدودة الموارد خسائر كبيرة نظرا لاعتمادها على أسواق التصدير والاستيراد في تلبية احتياجاتها. فالركود الاقتصادي في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا سيتسبب في تفشي انعدام الأمن والاستقرار فيها، ما يساهم في تنامي صراع الهويات (العرقية والدينية)، والتوترات الاجتماعية، وبروز الانقسامات القومية، وتزايد تدفقات الهجرة تجاه البلدان المتقدمة.
كما ستشهد التجارة الرقمية والاتصالات ارتفاعا حادا، كنتيجة لزيادة الحواجز والقيود المادية التي تفرضها الدول، إلاّ أنّ تحديات إدارة المعلومات وأمنها، سيما في الدول المتمتعة بقدرة قوية على التحكم في الشبكة (الصين وإيران)، ستؤدي إلى تعزيز حواجز الحماية في الفضاء الالكتروني. فالدول التي كانت تدعو إلى فتح حر للإنترنت ستتجه نحو إنشاء شبكات جديدة مغلقة ومحمية، للحد من التهديدات، وحجب الأفكار التي لا تحظى بشعبية. وفي الوقت الذي ستستمر فيه الو.م.أ وعدد من حلفائها في المحافظة على أساسيات الإنترنت المفتوح، تعمل معظم الدول الأخرى على تقوية قيود الغلق والحماية. فتقدم الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات الطاقة والتصنيع الإضافي سيساعد بعض الدول على التكيف، مع ارتفاعٍ حاد للسلع الاستهلاكية.
أما الروابط الأمنية فلا تختفي تماما، فالدول الـمُهدَّدَة (اليابان، وكوريا الجنوبية..الخ) من طرف جيرانها الأقوياء (الصين، كوريا الشمالية بأسلحتها النووية)، ستسعى لحماية نفسها بإقامة علاقات أمنية مع القوى الكبرى الأخرى، أو بتسريع خططها لتطوير أسلحة نووية كضمان نهائي لأمنها. كما أنه ستحدث صراعات على هامش المجموعات الأمنية ولكن على نطاق ضيق، سيما حول الموارد النادرة (في القطب الشمالي، في الفضاء، وفي قاع المحيطات..الخ). كما سيكون هناك تزايد لعدم الاستقرار في الدول الفقيرة، بالشكل الذي يجعل من الدول الكبرى أو الأمم المتحدة تحجم عن التدخل للمساعدة في استعادة النظام، ما سيؤدي لمشاكل أخرى، فضلا عن عدم تنسيق الجهود للحد من التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، والتي سيكون لها عواقب كبيرة، خاصة على الدول الفقيرة.
5- السيناريو الخامس: المأساة والتعبئة.
بحلول عام 2040، سيكون هناك تحالف عالمي بقيادة الاتحاد الأوروبي والصين، بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات متعددة الأطراف المعاد تنشيطها، والذي سيقوم بتنفيذ تغيرات بعيدة المدى، مصممة لمواجهة التغيرات المناخية، ونضوب الموارد والفقر، وهذا في أعقاب أزمة عالمية للغذاء ناتجة عن التغيرات المناخية والتدهور البيئي، بحيث تلجأ الدول الغنية لمساعدة الدول الفقيرة في إدارة أزماتها (الانتقال لاقتصاد منخفض الكربون، بتكثيف برامج المساعدة ونقل التقنيات المتقدمة للطاقة..الخ)، نتيجة تزايد الإدراك بعالمية التحديات وسرعة عبورها للحدود الوطنية.
فارتفاع درجة حرارة وحموضة المحيطات سيؤدي لتدمير مصائد الأسماك الرئيسة (بالإفراط في الاستغلال)، إضافة إلى تغير أنماط هطول الأمطار (انخفاض المحاصيل في مناطق إنتاج الغذاء الرئيسة)، بالشكل الذي سيرفع معه أسعار الغذاء، ويدفع الدول المنتجة إلى تخزين محاصيلها، مما يؤدي إلى تقويض توزيعه وانتشار الجوع في العالم، ما يدفع إلى ظهور الاضطرابات والاحتجاجات كرد فعل على عجز الحكومات على تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، وإلى سقوط العديد من الأنظمة.
كما ستلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا في نشر الشائعات والتي ستؤدي إلى وقوع حوادث عنيفة. فاستمرار أزمة الجوع سيُحفّز بروز حركة عالمية مناصرة للتغيرات المنتهجة لحل المشكلات البيئية، مع اصطدامها بمقاومة شديدة من الأجيال المتضررة من جائحة كوفيد 19، والمهدَّدة بنقص الغداء، واتهامها للجيل السابق بتدمير كوكبهم، إلى جانب دعمهم للمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في أعمال الإنقاذ. ومع تطور الحركة سيزداد تركيزها على قضايا أخرى (الصحة والفقر)، في تغير من القاعدة إلى القمة.
كما أن المواقف العالمية تجاه البيئة وسلامة الإنسان ستشهد تغيرات، نتيجة تزايد الإدراك بعدم استدامة الممارسات الماضية، والذي سيدفع بالدول والشركات الكبرى لتركيز استثماراتها من أجل تطوير الحلول التكنولوجية، لمعالجة التحديات (المرتبطة بالغذاء والمناخ والصحة)، وتقديم المساعدة الضرورية للأشخاص الأكثر تضررا من الكوارث، مع توسيع أهداف الشركات لخدمة أصحاب المصلحة (العملاء والموظفين والموردين والمجتمعات).
غير أن هناك دولا ستبدي مقاومة للتغيير ( روسيا والدول المصدرة للبترول)، فلا تنضم إلى هذه المبادرة، خاصة مع اكتشاف بعض المجتمعات بأن الروح العالمية الجديدة تشكل تهديدا للقيم التقليدية وأنظمة الرعاية. وبينما تستخدم الجهات غير الحكومية والمتطرفون الهجمات السيبرانية والإرهاب من أجل جذب الانتباه إلى قضاياهم، فإن الدول ذات المصالح القوية في مجال الطاقة (إيران، روسيا، بعض دول الخليج العربي) ستتخذ إجراءات سياسية مُدمّرة، قد تؤدي إلى صراعات سياسية واجتماعية طويلة المدى.
توصية:
– على صانع القرار الجزائري التفكير في ضرورة إيلاء أهمية قصوى لما تصدره مؤسسات الفكر الغربية، وللطريقة والمنهجية التي تعتمدها في جمع وتحليل المعلومات والبيانات، والقائم أساسا على استقطاب وتوظيف نخبة من الأكاديميين والمفكرين والخبراء، وهذا من أجل تطوير تفكيرنا، انطلاقا من إحداث تكامل بين مختلف القطاعات، بما فيه القطاعات المهتمة بجمع المعلومات التي يجب أن تساهم هي أيضا في توفير المعطيات والبيانات، بالشكل الذي يُسهّل على خبراءنا استشراف مستقبل البلد بطريقة علمية ومـُمَنْهَجة.
[1] تقرير باللغة الإنجليزية متاح على موقع الإنترنت الآتي: www.dni.gov/index.php/gt2040-home
* مجلس الاستخبارات الوطني تأسس في سنة 1979، وهو نقطة وصل بين هيئات الاستخبارات الأمريكية المختلفة والمؤسسات السياسية، يقوم عمله على الاستعانة بمختلف الكفاءات العلمية والأكاديمية والسياسيية، بما في ذلك مؤسسات القطاع الخاص.
سجل في النشرة البريدية
سجل في النشرة البريدية ليصلك جديد المؤسسة