البدايات التاريخية للدولة ومبادئ العقد الاجتماعي المحدثة
بقلم: د. محمد عبد النور
لكي تنشأ الدولة لابد من الاستقرار، والاستقرار يجلب التحضر، ما يعني أن الدولة سبيل إلى التحضر، والاستقرار أساس لهما، والتحضر يسمح بالتفكير، والتفكير يبني أشكال المجتمع الأكثر تعقيدا، وانتهاء إلى تحديد الطبيعة المرجعية للعلاقات الانسانية بدءا بالعلاقات الاجتماعية ووصولا إلى العلاقات الدولية، هذا ما سيحاول هذا المقال بيان خطوطه العريضة.
أولا: في أن الإنسان اجتماعي بالأصل، وأن الاستقرار طارئ عليه
لم يكن الإنسان منذ البداية مستقرا، بل عرف التنقل المستمر الذي فرضته عليه حياة الصيد وجمع الطعام، فكان يلاحق غذاءه في المكان والزمان، وذلك ما ألقى بظلاله على حياة الإنسان الاجتماعية كلها، ولما كان جمع الطعام ضرورة حيوية تعذر على الإنسان العيش تحت نظام اجتماعي مستقر، ذلك أن النظام الاجتماعي يقتضي الرتابة والنمطية التي لا تحصل إلا بالاستقرار، وهو ما حرمته منه حياة التنقل المستمر، فاقتضت إذن نشأة النظام الاجتماعي الاستقرار.
بداية لابد من التمييز بين اجتماعية الانسان (Sociality)، والنظام الاجتماعي للإنسان (Social Ordre)، فالاجتماعية قبل أن تكون حياةً داخل الجماعة الإنسانية هي أولا قابلية للاجتماع (Sociability)، أو قل انجذاب للاجتماع (Socialisation)، فليس عيش الإنسان الفرد داخل الجماعة خيارا، لكنه ضرورة بيولوجية تفرضها آلية الاتحاد الذهني بالآخرين.
ولكي ينتقل الإنسان من البساطة الاجتماعية إلى تعقّد النظام الاجتماعي كان لابد من الاستقرار، وما جذبه إلى الاستقرار وبالتالي التمدّن، -الذي أصبح فيما بعد الغاية التي ينتهي إليها الجميع حسب ابن خلدون- هو عاملان:
- اكتشاف الزراعة: الانتقال من الترحل المكاني الحيواني إلى الاستقرار الاجتماعي الانساني بظهور مركزية المزارع. (ضرورة الاقتصاد في الدولة)
- النزوع إلى الخوف: الانتقال من التبلد الروحي الحيواني إلى الرهبة الإنسانية للموت والموتى بظهور مركزية القبور. (ضرورة الدين في الدولة)
وعلى ذلك الأساس ظهرت أولى الدول في السواحل والضفاف حيث خصوبة الأراضي الزراعية: الرافدين، مصر وجنوب أمريكا والصين والهند، وكذا قيام الدول على الدين الذي تعتبر المقبرة التي تقع طرف المدينة رمزا إليه.
إذن ظهور الاستقرار حصل بالانتظام في إطار وحدات اجتماعية بالتوازي مع تطور الرهبة الروحية في الإنسان، حيث الأول نفعي مرتبط بتحقيق الاكتفاء الغذائي، والثاني نفسي مرتبط بتحقيق الاشباع الروحي، وينتج عن الاستقرار تكثيف كبير للتفاعل الاجتماعي في الزمان والمكان ما يؤسس لعلاقات اجتماعية نمطية تنشأ على إثرها الأنظمة الاجتماعية.
ثانيا: في أن النظام الاجتماعي قرابي في الأصل، وأن الدين طارئ عليه
كما أن الاجتماع حقيقة أصيلة في الإنسان الفرد، فإن الزعامة حقيقة أصيلة في الجماعة الإنسانية، وتاريخيا فإن المبدأ الأول الذي اجتمع البشر حوله وانتظموا على وقعه هو مبدأ القرابة الدموية، الأسرة، أبناء العمومة، القبيلة… إلخ، ومبدأ القرابة كان في مرحلة معينة كافيا لوحده لتحقيق نظام اجتماعي سياسي، بمعنى كفايته لتحقيق حماية ورعاية الفرد، حيث الحماية تكون أمنية، والرعاية تكون سياسية.
ولذلك ولكي تكتمل أركان الدولة لابد من الزعامة السياسية والقيادة العسكرية، فيضاف إلى العنصرين المتقدمين (الاقتصاد والدين) العنصران التاليان باعتبارهما اكتشاف ناتج عن النظام الاجتماعي السياسي القرابي، وهما (السياسة والحرب)، حيث وبالمفهومين الأخيرين حصل انتقال من مجتمع القرابة المنظم إلى مجتمع الدولة، فاقتضى الأمر تحولا نوعيا في كل من السياسة والحرب والاقتصاد والدين، فانتهى الأمر إلى اكتمال الأعمدة الأربعة للدولة.
- ظهور الاحلاف السياسية: التحول من القائد القرابي إلى القائد غير القرابي الخاضع لقواعد ديبلوماسية مجردة أعلى من القواعد القرابية، بمعنى تجاوز النظام السياسي الموضوعي للنظام الاجتماعي القرابي.
- ظهور التخصص الأمني: تحول الوظيفة الحربية من العموم إلى التخصص الخاضع للرتبية والتدريب والتخطيط الاستراتيجي، بمعنى تجاوز التجنيد الظرفي العام إلى الاحتراف الجزئي في المجتمع.
- ظهور فائض الإنتاج: كان الإنتاج يقوم على سد الحاجة ثم انتهى إلى أنه أصبح يوفر أكثر من الحاجة، وبالتالي أصبح الأمر يتطلب التخطيط والتوزيع خاصة مع ظهور الثروات الخام.
- ظهور الرابطة الدينية: كان الدين قرابيا يستعمل لتحقيق حاجة جماعية قرابية، وأصبح رابطة وظيفية في الدولة لتحقيق الاستقرار والتماسك العابر لمبدأي القرابة والوطن.
نشأ عن اكتمال التشكل التاريخي للعناصر الأربعة المؤسسة للدولة وتحول النظام الاجتماعي القرابي إلى نظام سياسي، فحصل بين القرابة والدولة انفصال ابستمولوجي واتصال أكسيولوجي:
- الانفصال الابستمولوجي: تحول النظام السياسي عن مبدأ الرابطة الاجتماعية القرابية إلى مبدأ الرابطة السياسية الوطنية. فغدى للوطنية وظيفة سياسية هي ربط الأفراد داخليا، كما غدى للدولة وظيفة مافوق وطنية هي توسيع الرابطة خارجيا.
- الاتصال الاكسيولوجي: حفاظ الدولة على مبدأ القرابة في التنظيم الاجتماعي وهو حماية ورعاية الأفراد، حيث غدت الدولة حسب تعريف سباير أكبر شبكة تكافل اجتماعي، وهي أعقد شكل اجتماعي في توفير الموارد للأفراد الذين أصبحوا في وضع أفضل في ظل الدولة.
ثالثا: في أن قيام الدولة لا يكون إلا باحتكار الأمن والجباية
هكذا غدت الدولة في قيامها الفعلي بمثابة العقد الاجتماعي الذي يتنازل فيه الأفراد طواعية عن حريتهم لصالح الحاكم الذي يضمن حقوقهم الأساسية، والتنازل يظهر أساسا في عنصرين:
- التنازل الأمني واحتكار الدولة للعنف الشرعي، أو ضرورة السلطان القاهر.
- التنازل الاقتصادي وإشراف الدولة على الاقتصاد، أو ضرورة الحسبة والجباية.
ووجه الاحتكار واضح في أنه لا يحق التسليح والتجنيد إلا للمؤسسة الرسمية الحامية للدولة، تحمي جغرافيتها وديمغرافيتها. ولا يحق جمع الضرائب والمراقبة المالية إلا للمؤسسة الرسمية الحاكمة للدولة، تحمي أموالها وثرواتها، و ذلك على اختلاف نماذج الحكم بين النموذج الفدرالي والنموذج المركزي يبقى المبدآن ثابتان.
رابعا: في أن أصل العقد الاجتماعي الإيثار، وأن الأنانية طارئة على السلوك السياسي
رأى هوبز أن أعمق المخاوف الإنسانية هو هاجس الموت العنيف، وهي عند روسو خشية الألم والجوع، وهو ما يؤدي في نظر الأول إلى حرب الجميع ضد الجميع، لذلك -وفي نظره- ولتلافي الوضع الخطير يلجأ الناس إلى التخلي عن حريتهم الطبيعية مقابل احترام، الآخرين لحقهم في الحياة، وهو ما يتجسد في الدولة التي تضع العقد الاجتماعي موضع تنفيذ وإشراف مستمر عليه بالضرورة، وإلا فإن تسبب السلطة الحاكمة في الإخلال بالحقوق الأساسية للمواطنين يجعل من الثورة حقا حسب لوك.
وقف فوكوياما عند نقطة مهمة اتفق عليها منظرو العقد الاجتماعي وهي القول الضمني بفردانية وأنانية الإنسان، ورأى في ذلك خطأً سماه “مغالطة هوبز” التي تعتبر أن الاجتماع في البشر أمر طارئ، وأن اجتماعهم كان حصيلة تفكير وقرار واع، بينما الصحيح أن الفرد اجتماعي بواقعه: ميلاده في الجماعة، وطبيعته: ارتباطه بها، وبالتالي تطلب هذا الخطأ المرجعي إعادة النظر في نظرية العقد الاجتماعي ذاتها التي جاءت أساسا لحل معضلة الصراع الناشيء عن أنانية الإنسان.
بينما الملاحظات والتقارير الواردة من عالم البيولوجيا تؤكد أن الأصل في الإنسان هو أنه يسلك بالفطرة سلوكا تعاونيا، أو ما يسمى بالإيثار الاجتماعي، وإن ما يجعل من الفردانية النواة الصلبة للسلوك السياسي والاقتصادي هو تطوير البشر حديثا لمؤسسات ذات سطوة على الغرائز الاجتماعية الأكثر طبيعية، فالفردانية حسب فوكوياما صالحة لتفسير سلوك الإنسان المعاصر وليس لتفسير مراحل النشوء.
فالسلوك الإنساني إذن هو تعاوني بالأصل، وأنه يحدث على أحد أساسين:
- القرابة الدموية: فالرغبة في نقل الخيرات والموارد إلى الأقارب هي أكثر ثوابت السياسة ديمومة.
- الإيثار التبادلي: وهي كفاءة التعاون مع الغرباء غير الأقارب وتبادل المنافع معهم.
فالإيثار الاجتماعي يقابله سلوك أناني يسميه علماء الاجتماع بسلوك الراكب المجاني، الذي يأخذ دون عطاء، فالمعلوم أن علماء الاجتماع أبدوا معارضة شديدة للداروينية عندما فهموا منها أنها تعتبر الانانية هي التكيف الأمثل للبقاء، وهو ما ينقض مشروع علم الاجتماع الذي يتطلب التماسك والتضامن بعكس الفردانية والأنانية، إلا أن انفتاحهم على حقيقة قول الداروينية بأن الإيثار هو تكيف تام بعكس الأنانية جعلهم يطمئنون إلى البيولوجيا ويستعدون للتفاعل معها وهو ما انتهى في الأخير إلى ظهور السوسيوبيولوجيا كتخصص من تخصصات السوسيولوجيا.
خامسا: في أن علاج أزمة الدولة لا يمكن بغير استحضار المنظور الدولي والمقاربة الحضارية
سادسا: وأن علاج الحرب الأهلية ممكن فقط باستعادة الهوية الطبيعية والمنظور المنفعي
والمحصّلة هي أن جذر مراجعة نظرية العقد الاجتماعي يعود إلى التفاعل بين علمي الأحياء والاجتماع، بما يقدم منظورا تأسيسا جديدا للفعل المؤسس للسياسة، ومنه القول بأن الدولة هي في الأصل شبكة تكافل اجتماعية أرقى من التنظيم الاجتماعي القرابي وليس مجرد وسيلة لحل الصراعات، وهذا ينتج عنه أيضا تعامل الدولة مع الداخل والخارج تعاملا إيثاريا، وهذا ما يغيب عن السياسة الحالية، فذلك يعالج معضلتين:
- العلاقة الداخلية بين الحاكم والمحكوم: التي تقوم اليوم على توازنات مصالح تقصي الشعوب من المعادلة وتستغلها، وعلاجها يفرض إصلاحا عميقا إن أمكن وتغييرا جذريا إن تطلب الأمر.
- العلاقات الخارجية بين الدول: التي تقوم اليوم على توازنات مصالح تقصي الضعفاء من المعادلة، وتهيمن عليها، وعلاجها يفرض روحانية مستقلة وسعي للتمايز.
أما أن حقيقة الوضع الحالي المبنية على معضلة الهيمنة الخارجية قد اختلطت مع واقع الاحتراب الأهلي الجاري سواء كان عنيفا أو باردا، فإن العلاج يكمن في:
- داخليا استعادة التعريف الطبيعي للدولة -ولو ظرفيا- وهو تكثيف الوعي بالهوية الطبيعية التي تختزل في انتماء جغرافي-ديمغرافي.
- خارجيا استعادة التعريف التاريخي للعلاقات الدولية، وهو تكثيف الوعي بالهوية التاريخية التي تجعل من الانتماء الحضاري فاصلا للتمايز والتعارف بين الشعوب.
أخيرا، ومما تقدّم يمكن الوصول نتيجة مفادها أن للدولة وظيفية منفعية هي: الرعاية والحماية، ووظيفة روحانية هي الأمن الفكري والروحي، وبين أن الأول جلي واضح يسير الاستيعاب، والثاني عميق وصعب التمييز، فإن الأول مرتبط بالحس المشترك لعامة المواطنين، والثاني مرتبط بالنباهة العقلية للنخب، لذلك فالأولوية للأول، وأعني به تحقيق الرفاه الذي يمس الحس المشترك بما يساعد على خلق لحمة اجتماعية داخل الأوطان، وتلك اللحمة ذاتها هي الشرط المؤسس للأمن الروحي، وبينهما طريق طويلة قد تمتد لأجيال وغاية القول أن يُساس الأمر إلى غاية تحققه، وأن يكون متضمنا في الشفرة الجينية لمشروع دولة السيادة منذ بدايته؛ دولة السيادة التي مطلب الإنسان في عصرنا، سيادته الفردية على نفسه وضمان الحماية والرعاية المادية والروحية من دولته.
سجل في النشرة البريدية
سجل في النشرة البريدية ليصلك جديد المؤسسة